فصل: تفسير الآية رقم (1)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير الألوسي المسمى بـ «روح المعاني في تفسير القرآن العظيم والسبع المثاني» ***


تفسير الآية رقم ‏[‏195‏]‏

‏{‏أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ ‏(‏195‏)‏‏}‏

وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا‏}‏ الخ تبكيت إثر تبكيت مؤكد لما يفيده الأمر التعجيزي من عدم الاستجابة ببيان فقدان آلاتها بالكلية، وقيل‏:‏ إنه على الاحتمال الأول في المماثلة كر على المثلية بالنقض لأنهم أدون منهم، وعبادة الشخص من هو مثله لا تليق فكيف من هو دونه، وعلى الاحتمال الثاني فيها عود على الفرض المبني عليه بالمثلية بالإبطال، وعلى قراءة التخفيف وإرادة النفي تقرير لنفي المماثلة بإثبات القصور والنقصان، ووجه الإنكار إلى كل واحد من تلك الآلات الأربع على حدة تكريراً للتبكيت وتثنية للتقريع وإشعاراً بأن انتفاء كل واحد منها بحيالها كاف في الدلالة على استحالة الاستجابة وليس المراد أن من لم يكن له هذه لا يستحق الألوهية وإنما يستحقها من كانت له ليلزم أما نفي استحقاق الله تبارك وتعالى لها أو إثبات ذلك له كما ذهب إليه بعض المجسمة واستدل بالآية عليه بل مجرد إثبات العجز، ومن ذلك يعلم نفي الاستحقاق، ووصفه الأرجل بالمشي بها للإيذان بأن مدار الإنكار هو الوصف وإنما وجه إلى الأرجل لا إلى الوصف بأن يقال‏:‏ أيمشون بأرجلهم لتحقيق أنها حيث لم يظهر منها ما يظهر من سائر الأرجل فهي ليست بأرجل في الحقيقة، وكذا الكلام فيما بعد من الجوارح الثلاثة الباقية، وكلمة ‏{‏أَمْ‏}‏ في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا‏}‏ منقطعة وما فيها من الهمزة لما مر من التبكيت، وبل للإضراب المفيد للانتقال من فن منه بعد تمامه إلى آخر منه مما تقدم، والبطش الأخذ بقوة‏.‏

وقرأ أبو جعفر ‏{‏يَبْطِشُونَ‏}‏ بضم الطاء وهو لغة فيه، والمعنى بل ألهم أيد يأخذون بها ما يريدون أو يدفعون بها عنكم، وتأخير هذا عمله قبله كما قال شيخ الإسلام لما أن المشي حالهم في أنفسهم والبطش حالهم بالنسبة إلى الغير، وأما تقديم ذلك على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ ءاذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا‏}‏ مع أن الكل سواء في أنها من أحوالهم بالنسبة إلى الغير فلمراعاة المقابلة بين الأيدي والأرجل ولأن انتفاء المشي والبطش أظهر والتبكيت به أقوى، وأما تقديم الأعين على الآذان فلأنا أشهر منها وأظهر عيناً وأثراً، وكون الإبصار بالعين والسماع بالأذان جار على الظاهر المتعارف‏.‏ واستدل بالآية من قال‏:‏ إن الله تعالى أودع في بعض الأشياء قوة بها تؤثر إذا أذن الله تعالى لها خلافاً لمن قال‏:‏ إن التأثير عندها لا بها‏.‏ وزعم أن ذلك القول قريب إلى الكفر وليس كما زعم بل هو الحق الحقيق بالقبول ‏{‏قُلِ ادعوا شُرَكَاءكُمْ‏}‏ أمر له صلى الله عليه وسلم بأن يناصبهم المحاجة ويكرر عليهم التبكيت بعد أن بين شركاءهم لا يقدرون على شيء أصلاً، أي أدعوا شركاءكم واستعينوا بهم على ‏{‏ثُمَّ كِيدُونِ‏}‏ جميعاً أنتم وشركاؤكم وبالغوا في ترتيب ما تقدرون عليه من مبادي المكر والكيد ‏{‏فَلاَ تُنظِرُونِ‏}‏ فلا تمهلوني ساعة بعد ترتيب مقدمات الكيد فإني لا أبالي بكم أصلاً، وياء المتكلم في الفعلين مما لا يثبتوها خطأ، وقرأ أبو عمرو بإثبات ياء كيدون وصلاً وحذفها وقفا، وهشام بإثباتها في الحالين والباقون بحذفها فيهما‏.‏ وفي هود ‏{‏فَكِيدُونِى جَمِيعًا‏}‏ ‏[‏هود‏:‏ 55‏]‏ بإثبات الياء مطلقاً عند الجميع، وأما ياء ‏{‏فَلاَ تُنظِرُونِ‏}‏ فقد قال الأجوهري‏:‏ إنهم حذفوها لا غير‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏196‏]‏

‏{‏إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ ‏(‏196‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ وَلِيّىَ الله الذى نَزَّلَ الكتاب‏}‏ تعليل لعدم المبالاة المنفهم من السوق انفهاماً جلياً، وأل في الكتاب للعهد والمراد منه القرآن، ووصفه سبحانه بتنزيل الكتاب للإشعار بدليل الولاية، وكأنه وضع نزل الكتاب موضع أرسلني رسولاً ولا شك أن الإرسال يقتضي الولاية والنصرة، وقيل‏:‏ إن في ذلك إشارة إلى علة أخرى لعدم المبالاة كأنه قيل‏:‏ لا أبالي بكم وبشركائكم لأن وليي هو الله تعالى الذي نزل الكتاب الناطق بأنه وليي وناصري وبأن شركاءكم لا يستطيعون نصر أنفسهم فضلاً عن نصركم، وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين‏}‏ تذييل مقرر لمضمون ما قبله، أي ومن عادته جل شأنه أن ينصر الصالحين من عباده ولا يخذلهم وقال الطيبي‏:‏ إنما خص اسم الذات بتنزيل الكتاب وجعلت الآية تعليلاً للدلالة على تفخيم أمر المنزل وأنه الفارق بين الحق والباطل وأنه المجلي لظلمات الشرك والمفحم لألسن أرباب البيان والمعجز الباقي في كل أوان وهو النور المبين والحبل المتين وبه أصلح الله تعالى شؤون رسوله صلى الله عليه وسلم حيث كمل به خلقه وأقام به أوده وأفسد به الأباطيل المعطلة، ومن ثم جيء بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ‏}‏ الخ كالتذييل والتقرير لما سبق والتعريض بمن فقد الصلاح بالخذلان والمحق، والمعنى إن وليي الذي نزل الكتاب المشهور الذي تعرفون حقيقته ومثله يتولى الصالحين وبخذل غيرهم، ولا يخفى أن ما ذكر أولاً في أمر الوصفية أنسب بالمقام وأمر التذييل مما لا مرية فيه، وهذه الآية مماجربت المداومة عليها للحفظ من الأعداء وكانت ورد الوالد عليه الرحمة في الأسحار وقد أمره بذلك بعض الأكابر في المنام، والجمهور على تشديد الياء الأولى من ‏{‏وَلِيُّ‏}‏ وفتح الثانية ويقرأ بحذفها في اللفظ لسكونها وسكون ما بعدها، وبفتح الأولى ولا ياء بعدها وحذف الثانية من اللفظ تخفيفاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏197‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ ‏(‏197‏)‏‏}‏

‏{‏والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ‏}‏ أي تعبدونهم أو تدعونهم من دونه سبحانه وتعالى للاستعانة بهم على حسبما أمرتكم به ‏{‏لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ‏}‏ في أمر من الأمور ويدخل في ذلك الأمر المذكور دخولاً أولياً، وجوز الاقتصار عليه ‏{‏وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ‏}‏ إذا أصيبوا بحادثة‏.‏

199‏]‏

‏{‏وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ ‏(‏198‏)‏ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ‏(‏199‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى‏}‏ أي إلى أن يهدوكم إلى ما تحصلون به مقاصدكم مطلقاً أو في خصوص الكيد المعهود ‏{‏لاَ يَسْمَعُواْ‏}‏ أي دعاءكم فضلاً عن المساعدة والإمداد، وهذا أبلغ من نفي الاتباع، وحمل السماع على القبول كما في سمع الله لمن حمده كما زعمه بعضهم ليس بشيء، وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ بيان لعجزهم عن الإبصار بعد بيان عجزهم عن السمع، وبهذا على ما قيل تم التعليل لعدم المبالاة فلا تكرار أصلاً، وقال الواحدي‏:‏ إن ما مر للفرق بين من تجوز عبادته وغيره، وهذا جواب ورد لتخويفهم له صلى الله عليه وسلم بآلهتهم، والرؤية بصرية، وجملة ينظرون في موضع الحال من المفعول الراجع للأصنام، والجملة الاسمية حال من فاعل ينظرون، والخطاب لكل واحد من المشركين، والمعنى وترى الأصنام رأي العين يشبهون الناظر إليك ويخيل لك أنهم يبصرون لما أنهم صنع لهم أعين مركبة بالجواهر المتلألئة وصورت بصورة من قلب حدقته إلى الشيء ينظر إليه والحال أنهم غير قادرين على الإبصار، وتوجيه الخطاب إلى كل واحد من المشركين دون الكل من حيث هو كل كالخطابات السابقة للإيذان بأن رؤية الأصنام على الهيئة المذكورة لا يتسنى للكل معاً بل لكل من يواجهها‏.‏

وذهب غير واحد إلى أن الخطاب في ‏{‏تَرَاهُمْ‏}‏ لكل واقف عليه، وقيل للنبي صلى الله عليه وسلم، وضمير الغيبة على حاله أو للمشركين على أن التعليل قد تم عند قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لاَ يَسْمَعُواْ‏}‏ أي وترى المشركين ناظرين إليك والحال أنهم لا يبصرونك كما أنت عليه أو لا يبصرون الحجة كما قال السدي، ومجاهد‏.‏ ونقل عن الحسن أن الخطاب في ‏{‏وَإِن تَدْعُوهُمْ‏}‏ للمؤمنين على أن التعليل قد تم عند قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يُنصَرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 197‏]‏ أي وإن تدعوا أيها المؤمنون المشركين إلى الإسلام لا يلتفتوا إليكم ولا يقبلوا منكم، وعلى هذا يحسن تفسير السماع بالقبول، وجعل ‏{‏وَتَرَاهُمْ‏}‏ خطاباً لسيد المخاطبين بطريق التجريد، وفي الكلام تنبيه على أن ما فيه عليه الصلاة والسلام من شواهد النبوة ودلائل الرسالة من الجلاء بحيث لا يكاد يخفى على الناظرين‏.‏

وجوز بعضهم أن تكون الرؤية علمية وما كان في موضع المفعول الثاني والأول أولى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏200‏]‏

‏{‏وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ‏(‏200‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ‏}‏ النزغ والنسغ والنخس بمعنى وهو إدخال الإبرة أو طرف العصا أو ما يشبه ذلك في الجلد، وعن ابن زيد أنه يقال‏:‏ نزغت ما بن القوم إذا أفسدت ما بينهم، وقال الزجاج‏:‏ هو أدنى حركة تكون، ومن الشيطان وسوسته، والمعنى الأول هو المشهور، وإطلاقه على وسوسة الشيطان مجاز حيث شبه وسوسته إغراء للناس على المعاصي وإزعاجاً بغرز السائق ما يسوقه، وإسناد الفعل إلى المصدر مجازي كما في جد جده، وقيل‏:‏ النزغ بمعنى النازغ فالتجوز في الطرف، والأول أبلغ وأولى، أي إما يحملنك من جهة الشيطان وسوسة ما على خلاف ما أمرت به من اعتراء غضب أو نحوه ‏{‏فاستعذ بالله‏}‏ فاستجربه والتجىء إليه سبحانه وتعالى في دفعه عنك ‏{‏إِنَّهُ سَمِيعٌ‏}‏ سمع على أكمل وجه استعاذتك قولاً ‏{‏عَلِيمٌ‏}‏ يعلم كذلك تضرعك إليه قلباً في ضمن القول أو بدونه فيعصمك من شره، أو سمع أي مجيب دعاءك بالاستعاذة عليم بما فيه صلاح أمرك فيحملك عليه، أو سميع بأقوال من آذاك عليم بأفعاله فيجازيه عليها، والآية على ما نص عليه بعض المحققين من باب ‏{‏لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ‏}‏ ‏[‏الزمر‏:‏ 65‏]‏ فلا حجة فيها لمن زعم عدم عصمة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من وسوسة الشيطان وارتكاب المعاصي‏.‏ وفي «صحيح مسلم» عن ابن مسعود قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن وقرينه من الملائكة قالوا‏:‏ وإياك يا رسول الله قال‏:‏ وإياي إلا أن الله تعالى أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلا بخير ‏"‏ وقال آخرون‏:‏ إن نزغ الشيطان بالنسبة إليه صلى الله عليه وسلم مجاز عن اعتراء الغضب المقلق للنفس، وفي الآية حينئذٍ زيادة تنفير عن الغضب وفرط تحذير عن العمل بموجبه، ولذا كرر صلى الله عليه وسلم النهي عنه كما جاء في الحديث، وفي الأمر بالاستعاذة بالله تعالى تهويل لذلك وتنبيه على أنه من الغوائل التي لا يتخلص من مضرتها إلا بالالتجاء إلى حرم عصمته عز وجل‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏201‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ ‏(‏201‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين اتقوا‏}‏ استئناف مقرر لما قبله من الأمر ببيان أن الاستعاذة سنة مسلوكة للمتقين والإخلال بها شنشنة الغاوين، أي إن الذين اتصفوا بتقوى الله تعالى ‏{‏إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشيطان‏}‏ أي لمة منه كما روي عن ابن عباس، وتنوينه للتحقير، والمراد وسوسة ما، وهو اسم فاعل من طاف بالشيء إذا دار حوله، وجعل الوسوسة طائفاً للإيذان بأنها وإن مست لا تؤثر فهم فكأنها طافت حولهم ولم تصل إليهم‏.‏

وجوز أن يكون من طاف طيف الخيال إذا ألم في المنام فالمراد به الخاطر‏.‏ وذهب غير واحد إلى أن المراد بالطائف الغضب‏.‏ وقرأ ابن كثير‏.‏ وأبو عمرو‏.‏ والكسائي‏.‏ ويعقوب ‏(‏ طيف‏)‏ على أنه مصدر أو تخفيف من طيف من الواوي أو اليائي كهين ولين‏.‏ والمراد بالشيطان الجنس لا إبليس فقط ولذا جمع ضميره فيما سيأتي ‏{‏تَذَكَّرُواْ‏}‏ أي ما أمر الله تعالى به ونهى عنه، أو الاستعاذة به تعالى والالتجاء إليه سبحانه وتعالى، أو عداوة الشيطان وكده ‏{‏فَأذَاهُمْ‏}‏ بسبب ذلك التذكر ‏{‏هُم مُّبْصِرُونَ‏}‏ مواقع الخطأ ومناهج الرشد فيحترزون عما يخالف أمر الله تعالى وينجون عما لا يرضيه سبحانه وتعالى، والظاهر أن المراد من الموصول من اتصف بعنوان الصلة مطلقاً، وقال بعض المحققين‏:‏ إن الخطاب في قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 200‏]‏ الخ أما أن يكون مختصاً برسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو الظاهر فالمناسب أن يراد بالمتقين المرسلون من أولي العزم، أو يكون عاماً على طريقة «بشر المشائين إلى المساجد بالنور التام يوم القيامة»، أو خاصاً يراد به العام نحو ‏{‏يا أيُّهَا النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء‏}‏ ‏[‏الطلاق‏:‏ 1‏]‏ فالمتقون حينئذٍ الصالحون من عباد الله تعالى انتهى‏.‏ ولا يخفى أن الملازمة في الشرطية الأولى في حيز المنع والعموم هو المتبادر على كل حال، وزعم بعضهم أن المراد بالمتقين المنسوب إليهم المس غير الأنبياء عليهم السلام، وجعل الخطاب فيما سبق خاصاً بالسيد الأعظم صلى الله عليه وسلم وادعى أن النزغ أول الوسوسة والمس لا يكون إلا بعد التمكن، ثم قال‏:‏ ولذا فصل الله سبحانه وتعالى بين النبي عليه الصلاة والسلام وغيره من سائر المتقين فعبر في حقه عليه الصلاة والسلام بالنزغ وفي حقهم بالمس، وقد يقال‏:‏ إن اهتمام الشيطان في الوسوسة للكامل أكمل من اهتمامه في الوسوسة لمن دونه فلذا عبر أولاً بالنزغ وثانياً بالمس‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏202‏]‏

‏{‏وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ‏(‏202‏)‏‏}‏

‏{‏وإخوانهم‏}‏ أي إخوان الشياطن الذين لم يتقوا وذلك معنى الإخوة بينهم، وهو مبتدأ وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏يَمُدُّونَهُمْ فِى الغى‏}‏ خبره، والضمير المرفوع للشياطين والمنصوب للمبتدأ، أي تعاونهم الشياطين في الضلال وذلك بأن يزينوه لهم ويحملوهم عليه، والخبر على هذا جار على غير من هو له وفي أنه هل يجب إبراز الضمير أولا يجب في مثل ذلك خلاف بين أهل القريتين كالصفة المختلف فيها بينهم، وقيل‏:‏ إن الضمير الأول للإخوان والثاني للشياطين، والمعنى وإخوان الشياطين يمدون الشياطين بالاتباع والامتثال، وعلى هذا يكون الخبر جارياً على من هو له، والجار والمجرور متعلق بما عنده، وجوز أن يكون في موضع الحال من الفاعل أو من المفعول‏.‏ وقرأ نافع ‏{‏يَمُدُّونَهُمْ‏}‏ بضم الياء وكسر الميم من الإمداد والجمهور على فتح الياء وضم الميم‏.‏

قال أبو علي في الحجة بعد نقل ذكر ذلك‏:‏ وعامة ما جاء في التنزيل مما يحمد ويستحب أمددت على أفعلت كقوله تعالى‏:‏ ‏{‏أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ‏}‏ ‏[‏المؤمنون‏:‏ 55‏]‏ ‏{‏وأمددناهم بفاكهة‏}‏ ‏[‏الطور‏:‏ 22‏]‏ و‏{‏أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ‏}‏ ‏[‏النمل‏:‏ 36‏]‏ وما كان بخلافه على مددت قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَيَمُدُّهُمْ فِي طغيانهم يَعْمَهُونَ‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 15‏]‏ وهكذا يتكلمون بما يدل على أن الوجه فتح الياء كما ذهب إليه الأكثر، ووجه قراءة نافع أنه مثل ‏{‏فَبَشّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 21‏]‏ ‏{‏فَسَنُيَسّرُهُ للعسرى‏}‏ ‏[‏الليل‏:‏ 10‏]‏ وقرأ الجحدري ‏(‏يمادونهم‏}‏ من باب المفاعلة وهي هنا مجازية كأنهم كان الشاطين يعينونهم بالإغراء وتهوين المعاصي عليهم وهؤلاء يعينون الشياطين بالاتباع والامتثال

‏{‏ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ‏}‏ أي لا يمسكون ولا يكفون عن إغوائهم حتى يردوهم بالكلية فهو من أقصر إذا أقلع وأمسك كما في قوله‏:‏

سما لك شوق بعد ما كان أقصرا *** وجوز أن يكون الضمير للإخوان‏.‏ وروي ذلك عن ابن عباس‏.‏ والسدي وإليه ذهب الجبائي، أي ثم لا يكف هؤلاء عن الغي ولا يقصرون كالمتقين، وجوز أيضاً أن يراد بالإخوان الشياطين وضمير الجمع المضاف إليه أولاً والمفعول ثانياً والفاعل ثالثاً يعود إلى الجاهلين في قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 199‏]‏ أي وإخوان الجاهلين وهم الشياطين يمدون الجاهلين في الغي ثم لا يقصر الجاهلون عن ذلك، والخبر على هذا أيضاً جار على ما هو له كما في بعض الأوجه السابقة والأول أولى رعاية للمقابلة‏.‏ وقرأ عيسى بن عمر ‏{‏يُقْصِرُونَ‏}‏ بفتح الياء وضم الصاد من قصر وهو مجاز عن الإمساك أيضاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏203‏]‏

‏{‏وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآَيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏203‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِئَايَةٍ‏}‏ من القرآن عند تراخي الوحي كما روي عن مجاهد‏.‏ وقتادة‏.‏ والزجاج، أو بآية مقترحة كما روي عن ابن عباس‏.‏ والجبائي‏.‏ وأبي مسلم ‏{‏قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها‏}‏ أي هلا جمعتها ولفقتها من عند نفسك افتراء، أو هلا أخذتها من الله تعالى بطلب منه، وهو تهكم منهم لعنهم الله تعالى، ومما ذكرنا علم أن لاجتبى معنيين جمع وأخذ ويختلف المراد حسب الاختلاف في تفسير الآية، وعن علي بن عيسى أن الاجتباء في الأصل الاستخراج ومنه جباية الخراج، وقيل‏:‏ أصله الجمع من جبيت الماء في الحوض جمعته، ومنه قيل للحوض جابية لجمعه الماء، وإلى هذا ذهب الراغب، وف «الدر المصون» جبى الشيء جمعه مختاراً ولذا غلب اجتبيته بمعنى اخترته‏.‏

وقال الفراء يقال اجتبيت الكلام واختلقته وارتجلته إذا افتعلته من قبل نفسك وكذا اخترعته عند أبي عبيدة، وقال ابن زيد‏:‏ هذه الأحرف تقولها العرب للكلام يبتديه الرجل لم يكن أعده قبل ذلك في نفسه، ومن جعل الأصل شيئاً لا ينكر الاستعمال في الآخر مجازاً كما لا يخفى ‏{‏قُلْ‏}‏ رداً عليهم ‏{‏إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَىَّ مِن رَّبّى‏}‏ من غير أن يكون لي دخل ما في ذلك أصلاً على معنى تخصيص حاله عليه الصلاة والسلام باتباع ما يوحى إليه بتوجيه القصر إلى نفس الفعل بالنسبة إلى مقابله الذي كلفوه إياه عليه الصلاة والسلام لا على معنى تخصيص اتباعه صلى الله عليه وسلم بما يوحى إليه بتوجيه القصر بالقياس إلى مفعول آخر كما هو الشائع في موارد الاستعمال كأنه قل‏:‏ ما أفعل إلا اتباع ما يوحى إلي منه تعالى دون الاختلاف والاقتراح، وفي التعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميره عليه الصلاة والسلام ما لا يخفى ‏{‏هذا‏}‏ إشارة إلى القرآن الجليل المدلول عليه بما يوحى إليّ ‏{‏بَصَائِرُ مِن رَّبّكُمْ‏}‏ أي بمنزلة البصائر للقلوب بها تبصر الحق وتدرك الصواب، أو حجج بينة وبراهين نيرة تغني عن غيرها فالكلام خارج مخرج التشبيه البليغ، وقد حققت ما فيه على الوجه الأتم في الطراز المذهب، أو فيه مجاز مرسل حيث أطلق المسبب على السبب، وجوز أن تكون البصائر مستعارة لإرشاد القرآن الخلق إلى إدراك الحقائق، وهذا مبتدأ وبصائر خبره، وجمع خبر المفرد لاشتماله على آيات وسور جعل كل منها بصيرة، و‏{‏مِنْ‏}‏ متعلقة بمحذوف وقع صفة لبصائر مفيدة لفخامتها أي بصائر كائنة منه تعالى، والتعرض لوصف الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لتأكيد وجوب الإيمان بها، وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَهُدًى وَرَحْمَةٌ‏}‏ عطف على بصائر، وتنوينهما للتفخيم، وتقديم الظرف عليهما وتعقبهما بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ كما قال شيخ الإسلام للإيذان بأن كون القرآن بصائر متحقق بالنسبة إلى الكل وبه تقوم الحجة على الجميع، وأما كونه البعض من أن الثلاثة للمؤمنين، فقد قال النيسابوري في التفسير‏:‏ إن البصائر لأصحاب عين اليقن والهدى لأرباب علم اليقين والرحمة لغيرهم من الصالحين المقلدين على أتم وجه والجميع لقوم يؤمنون، وذكر نحو ذلك الخازن وادعى أنه من اللطائف وهو خلاف الظاهر بل لا يكاد يسلم، وهذه الجملة على ما يظهر من تمام القول المأمور به‏.‏

واحتج بالآية من لم يجوز الاجتهاد للنبي صلى الله عليه وسلم وفيه نظر‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏204‏]‏

‏{‏وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآَنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏204‏)‏‏}‏

‏{‏وَإِذَا قُرِىء القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ‏}‏ إرشاد إلى طريق الفوز بما أشير إليه من المنافع الجليلة التي ينطوي عليها القرآن، والاستماع معروف؛ واللام يجوز أن تكون أجلية وأن تكون بمعنى إلى وأن تكون صلة، أي فاستمعوه، والإنصات السكوت يقال‏:‏ نصت ينصت وأنصت وانتصت إذا سكت والاسم النصتة بالضم، ويقال كما قال الأزهري‏:‏ أنصته وأنصت له إذا سكت له واستمع لحديثه، وجاء أنصته إذا أسكته، والعطف للاهتمام بأمر القرآن، وعلل الأمر بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ أي لكي تفوزوا بالرحمة التي هي أقصى ثمراته، والآية دليل لأبي حنيفة رضي الله تعالى عنه في أن المأموم لا يقرأ في سرية ولا جهرية لأنها تقتضي وجوب الاستماع عند قراءة القرآن في الصلاة وغيرها؛ وقد قام الدليل في غيرها على جواز الاستماع وتركه فبقي فيها على حاله في الإنصات للجهر وكذا في الإخفاء لعلمنا بأنه قرأ، ويؤيد ذلك أخبار جمة، فقد أخرج عبد بن حميد‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ والبيهقي في سننه عن مجاهد قال‏:‏ قرأ رجل من الأنصار خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الصلاة فنزلت وإذا قرىء القرآن الخ‏.‏

وأخرج ابن جرير وغيره عن ابن مسعود أنه صلى بأصحابه فسمع أناساً يقرؤون خلفه فلما انصرف قال‏:‏ أما آن لكم أن تفهموا أما آن لكم أن تعقلوا ‏{‏وَإِذَا قُرِىء القرءان فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ‏}‏ كما أمركم الله تعالى‏.‏

وأخرج ابن أبي شيبة عن زيد بن ثابت قال‏:‏ لا قراءة خلف الإمام‏.‏ وأخرج أيضاً عن أبي هريرة قال‏:‏ «قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا»‏.‏ وأخرج أيضاً عن جابر «أن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ من كان له إمام فقراءته له قراءة» وهذا الحديث إذا صح وجب أن يخص عموم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ‏}‏ ‏[‏المزمل‏:‏ 20‏]‏ وقوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «لا صلاة إلا بقراءة» على طريقة الخصم مطلقاً فيخرج المقتدى وعلى طريقتنا أيضاً لأن ذلك العموم قد خص منه البعض وهو المدرك في الركوع إجماعاً فجاز التخصيص بعده بالمقتدى بالحديث المذكور، وكذا يحمل قوله عليه الصلاة والسلام للمسىء صلاته‏:‏ «فكبر ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن» على غير حالة الاقتداء جمعاً بين الأدلة، بل قد يقال‏:‏ إن القراءة ثابتة من المقتدى شرعاً فإن قراءة الإمام قراءة له فلو قرأ لكان له قراءتان في صلاة واحدة وهو غير مشروع‏.‏ بق الكلام في تصحيح الخبر، وقد روي من طرق عديدة مرفوعاً عن جابر رضيي الله تعالى عنه عنه عليه الصلاة والسلام وقد ضعف‏.‏

واعترف المضعفون لرفعه كالدارقطني‏.‏ والبيهقي‏.‏ وابن عدي بأن الصحيح أنه مرسل لأن الحفاظ كالسفيانين‏.‏ وأبي الأحوص‏.‏ وشعبة‏.‏ وإسرائيل‏.‏ وشريك‏.‏ وجرير‏.‏ وأبي الزبير‏.‏ وعبد بن حميد وخلق آخرين رووه عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن النبي صلى الله عليه وسلم فأرسلوه، وقد أرسله مرة أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه، وحينئذٍ لنا أن نقول المرسل حجة عند أكثر أهل العلم فيكفينا فيما رجع إلى العمل على رأينا وعلى طريق الإلزام أيضاً بإقامة الدليل على حجية المرسل أيضاً، وعلى تقدر التنزل عن حجيته فقد رفعه الإمام بسند صحيح‏.‏

وروى محمد بن الحسن في موطئه قال‏:‏ أنبأنا أبو حنيفة حدثنا أبو الحسن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ من صلى خلف إمام فإن قراءة الإمام له قراءة ‏"‏ وقولهم‏:‏ إن الحفاظ الذن عدوهم لم يرفعوه غير صحيح‏.‏ فقد قال أحمد بن منيع في مسنده‏:‏ أخبرنا إسحاق الأزرق حدثنا سفيان‏.‏ وشريك عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد عن جابر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة ‏"‏‏.‏ ثم قال وحدثنا جرير عن موسى عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره ولم يذكر جابراً ورواه عبد بن حميد قال‏:‏ حدثنا أبو نعيم حدثنا الحسن بن صالح عن أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره، وإسناد حديث جابر الأول على شرط الشيخين والثاني على شرط مسلم، فهؤلاء سفيان‏.‏ وشريك‏.‏ وجرير‏.‏ وأبو الزبير رفعوه بالطرق الصحيحة فبطل عدهم فيمن لم يرفعه، ولو تفرد الثقة وجب قبوله لأن الرفع زيادة وزيادة الثقة مقبولة فكيف ولم ينفرد، والثقة قد يسند الحديث تارة ويرسله أخرى‏.‏ وأخرجه ابن عدي عن الإمام رضي الله تعالى عنه في ترجمته وذكر فيها قصة وبها أخرجه أبو عبد الله الحاكم قال‏:‏ حدثنا أبو محمد بن بكر بن محمد بن حمدان الصيرفي حدثنا عبد الصمد بن الفضل البلخي حدثنا مكي بن إبراهيم عن أبي حنيفة عن موسى بن أبي عائشة عن عبد الله بن شداد بن الهاد عن جابر بن عبد الله «إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى ورجل خلفه قرأ فجعل رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ينهاه عن القراءة في الصلاة فلما انصرف أقبل عليه الرجل قال‏:‏ أتنهاني عن القراءة خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعا حتى ذكرا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال صلى الله عليه وسلم‏:‏

‏"‏ من صلى خلف إمام فإن قراءة الإمام له قراءة ‏"‏‏.‏ وفي رواية لأبي حنيفة «إن ذلك كان في الظهر أو العصر» وهي أن رجلاً قرأ خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهر أو العصر فأومأ إليه رجل فنهاه فلما انصرف قال‏:‏ أتنهاني الحدث‏.‏ نعم إن جابراً روى منه محل الحكم فقط تارة والمجموع تارة ويتضمن رد القراءة خلف الإمام لأنه خرج تأييداً لنهي ذلك الصحابي عنها مطلقاً في السرية والجهرية خصوصاً في رواية أبي حنيفة أن القصة كانت في السرية لا إباحة فعلها وتركها فيعارض ما روي في بعض روايات حديث ‏"‏ مالي أنازع في القرآن ‏"‏ أنه قال‏:‏ إنه لا بد ففي الفاتحة، وكذا ما رواه أبو داود‏.‏ والترمذي عن عبادة بن الصامت قال‏:‏ كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فثقلت عليه القراءة، فلما فرغ قال‏:‏ لعلكم تقرؤون خلف إمامكم، قلنا‏:‏ نعم هذا، قال‏:‏ لا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب فإنه لا صلاة لمن لا يقرأ بها؛ ويقدم لتقدم المنع على الإطلاق عند التعارض ولقوة السند فإن حديث المنع أصح فبطل رد المتعصبين، وتضعيف بعضهم لمثل الإمام الأعظم رضي الله تعالى عنه مع تضييقه في الرواية إلى الغاية حتى أنه شرط التذكر لجوازها بعد علم الراوي أن ذلك المروي خطه، ولم يشترط الحفاظ هذا ولم يوافقه صاحباه على أن الخبر قد عضد بروايات كثيرة عن جابر غير هذه وإن ضعفت وبمذاهب الصحابة أيضاً كابن عباس‏.‏ وابن عمر‏.‏ وزيد بن ثابت‏.‏ وابن مسعود‏.‏

وأخرج محمد عن داود بن قيس بن عجلان أن عمر رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ ليت في فم الذي يقرأ خلف الإمام حجراً، وروي مثل ذلك عن سعد بن أبي وقاص، وروي عن علي كرم الله تعالى وجهه إلا أن فيه مقالاً أنه قال‏:‏ من قرأ خلف الإمام فقد أخطأ الفطرة، وقال الشعبي‏:‏ أدركت سبعين بدرياً كلهم يمنعون المقتد عن القراءة خلف الإمام، وقد ادعى بعض أصحابنا إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم على ذلك، ولعل مراده بذلك إجماع كثير من كبارهم، وإلا ففيه نظر، وكون مراده الإجماع السكوتي ليس بشيء أيضاً، وذهب قوم إلى أن المأموم يقرأ إذا أسر الإمام القراءة ولا يقرأ إذا جهر وهو قول عروة بن الزبير‏.‏ والقاسم بن محمد‏.‏ والزهري‏.‏ ومالك‏.‏ وابن المبارك‏.‏ وأحمد‏.‏ وإسحاق، وروي عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه وحجتهم فما قيل‏:‏ إن الآية تدل على الأمر بالاستماع لقراءة القرآن والسنة تدل على وجوب القراءة خلف الإمام فحملنا مدلول الآيية على صلاة الجهر ومدلول السنة على صلاة السر جمعاً بين الدلائل، وقال آخرون‏:‏ إنما قرأ في السرية لأنه لا يقال له مستمع، واعترض بأنه وإن سلمنا أنه لا يقال له ذلك لكن لا نسلم أنه لا يقال له منصت مع علمه بالقراءة وبأنا لا نسلم دلالة السنة على وجوب القراءة خلف الإمام ودون إثبات ذلك خرط القتاد، على أن الجزم العمل بأقوى الدليلين، وليس مقتضى أقواهما إلا المنع، ومن هنا ضعف ما يروى عن محمد بن الحسن رحمه الله تعالى أنه يستحسن قراءة الفاتحة على سبيل الاحتياط مخالفاً لما ذهب إليه الإمام‏.‏

وأبو يوسف من كراهة القراءة لما في ذلك من الوعيد، والحق أن قوله كقولهما، فقد قال في كتاب «الآثار» بعدما أسند إلى علقمة بن قيس‏:‏ إنه ما قرأ قط فيما يجهر به ولا فيما لا يجهر به، وبه نأخذ فلا نرى القراءة خلف الإمام في شيء من الصلاة يجهر فيه أو لا يجهر فيه، ولا ينبغي أن يقرأ خلفه في شيء منها، وذكر في موطئه نحو ذلك، وقال السرخسي تفسد صلاة القارىء خلف الإمام في قول عدة من الصحابة رضي الله تعالى عنهم ومنهم فيما قيل سعد بن أبي وقاص، وفي رواية المزني عن الشافعي رضي الله تعالى عنه أنه يقرأ في الجهرية والسرية، وفي رواية البويطي أنه يقرأ في السرية أم القرآن ويضم السورة في الأوليين ويقرأ في الجهرية أم القرآن فقط، والمشهور عند الشافعية أنه لا سورة للمأموم الذي يسمع الإمام في جهرية بل يستمع فإن بعد بأن لم سمع أو سمع صوتاً لا يميز حروفه أو كانت سرية قرأ في الأصح، وسبب النزول لم يكن القراءة في الصلاة بل أمر آخر‏.‏ فقد روى أبو هريرة رضي الله تعالى عنه أنهم كانوا يتكلمون في الصلاة فنزلت، وحاصلها النهي عن التكلم لا عن القراءة، ومن الناس من فسر القرآن بالخطبة، والأمر بالاستماع إما للوجوب أو الندب، وعندنا الإنصات في الخطبة فرض على تفصيل في المسألة، وأخرج غير واحد عن مجاهد رضي الله تعالى عنه أن الآية في الصلاة والخطبة يوم الجمعة، وفي كلام أصحابنا ما يدل على وجوب الاستماع في الجهر بالقرآن مطلقاً‏.‏

قال في الخلاصة‏:‏ رجل يكتب الفقه وبجنبه رجل يقرأ القرآن فلا يمكنه استماع القرآن فالإثم على القارىء، وعلى هذا لو قرأ على السطح في الليل جهراً والناس نيام يأثم، وهذا صريح في إطلاق الوجوب، وعلل ذلك بأن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، و‏{‏إِذَا‏}‏ هنا للكلية وغالب الشرطات القرآنية المؤداة بها كلية، هذا والمراد من الاستماع في الآية المعنى المتبادر منه، وقال الزجاج‏:‏ المراد منه القبول والإجابة، وهو بهذا المعنى مجاز كما نص عليه في الأساس، ومنه سمع الله تعالى لمن حمده وسمع الأمير كلام فلان، ورجح ذلك العلامة الطيبي قال‏:‏ وهذا أوفق لتأليف النظم الكريم سابقاً ولاحقاً وأجمع للمعاني والأقوال فإنه تعالى لما ذكر تعريضاً أن المشركين إنما استهزأوا بالقرآن ونبذوه وراءهم ظهرياً لأنهم فقدوا البصائر وعدموا الهداية والرحمة وأن حالهم على خلاف المؤمنين أمر المؤمنين بما هو أزيد من مجرد الاستماع وهو قبوله والعمل بما فيه والتمسك به وأن لا يجاوزه مرتباً للحكم على تلك الأوصاف، ولذلك قيل‏:‏ إذا قرىء القرآن وضعاً للمظهر موضع المضمر لمزيد الدلالة على العلية، يعني إذا ظهر أيها المؤمنون إنكم لستم مثل هؤلاء المعاندين فعليكم بهذا الكتاب الجامع لصفات الكمال الهادي إلى الصراط المستقيم الموصل إلى مقام الرحمة والزلفى فاستمعوه وبالغوا في الأخذ منه والعمل بما فيه ليحصل المطلوب ولعلكم ترحمون، ويدخل في هذا وجوب الإنصات في الصلاة بطريق الأولى لأنها مقام المناجاة والاستماع من المتكلم، وعلى هذا الإنصات عند تلاوة الرسول صلى الله عليه وسلم ه، ويعلم منه أن الخطاب في الآية للمؤمنين بل هو نص في ذلك‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إن الخطاب فيها للكفار، وذلك أن كون القرآن بصائر وهدى ورحمة لا يظهر إلا بشرط مخصوص وهو أن النبي عليه الصلاة والسلام إذا قرأ عليهم القرآن عند نزوله استمعوا له وأنصتوا ليقفوا على معانيه ومزاياه فيعترفوا بإعجازه ويستغنوا بذلك عن طلب سائر المعجزات، وأيد هذا بقوله سبحانه وتعالى‏:‏ في آخر الآية ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ بناءً على أن ذلك للترجي وإنما يناسب حال الكفار لا حال المؤمنين الذين حصل لهم الرحمة جزماً في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَرَحْمَةً لّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 203‏]‏‏.‏ وأجيب بأن هذه الرحمة المرجوة غير تلك الرحمة، ولئن سلم كونها إياها فالإطماع من الكريم واجب فلم يبق فرق، وفي بناء الفعل للمفعول إشارة إلى أن مدار الأمر القراءة من أي قارىء كان‏.‏ وفي الآية من الدلالة على تعظيم شأن القرآن ما لا يخفى‏.‏ ومن هنا قال بعض الأصحاب‏:‏ يستحب لمريد قراءته خارج الصلاة أن يلبس أحسن ثيابه ويتعمم ويستقبل القبلة تعظيماً له، ومثله في ذلك العلم، ولو قرأ مضطجعاً فلا بأس إذ هو نوع من الذكر‏.‏ وقد مدح سبحانه ذاكريه قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم وضم رجليه عند القراءة ولا يمدها لأنه سوء أدب ولو قرأ ماشياً أو عند النسج ونحوه من الأعمال فإن كان القلب حاضراً غير مشتغل لم يكره وإلا كره، ولا يقرأ وهو مكشوف العورة أو كان بحضرته من هو كذلك‏.‏ وإن كانت زوجته، وكره بعضهم القراءة في الحمام والطريق‏.‏ قال النووي‏:‏ ومذهبنا لا تكره فيهما، وتكره في الحش وبيت الرحى وهي تدور عند الشعبي وهو مقتضى مذهبنا، والكلام في آداب القراءة وما ينبغي للقارىء طويل‏.‏ وفي الإتقان قدر له قدر من ذلك فإن كان عندك فارجع إليه‏.‏

والجملة على ما يدل عليه كلامهم يحتمل أن تكون من القول المأمور به ويحتمل أن تكون استئنافاً من جهته تعالى، قيل‏:‏ وعلى الأول

فقوله سبحانه وتعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏205‏]‏

‏{‏وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآَصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ ‏(‏205‏)‏‏}‏

‏{‏واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ‏}‏ عطف على ‏{‏قل‏}‏ وعلى الثاني فيه تجريد الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو عام لكل ذكر فإن الإخفاء أدخل في الإخلاص وأقرب من القبول، وفي بعض الأخبار يقول الله تعالى‏:‏ ‏{‏مِنْ مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَىَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ‏}‏ وقال الإمام‏:‏ المراد بالذكر في نفسه أن يكون عارفاً بمعان الإذكار الت قولها بلسانه مستحضراً لصفات الكمال والعز والعظمة والجلال، وذلك لأن الذكر باللسان عارياً عن الذكر بالقلب كأنه عديم الفائدة، بل ذكر جمع أن الذكر اللساني الساذج لا ثواب فيه أصلاً، ومن أتى بالكلمة الطيبة غير ملاحظ معناها أو جاهلاً به لا عد مؤمناً عند الله تعالى، وقيل‏:‏ الخطاب لمستمع القرآن والذكر القرآن، والمراد أمر المأموم بالقراءة سراً بعد فراغ الإمام عن قراءته وفيه بعد ولو التزم قول الإمام، وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏تَضَرُّعًا وَخِيفَةً‏}‏ في موضع الحال بتأويل اسم الفاعل أي متضرعاً وخائفاً، أو بتقدير مضاف أي ذا تضرع وخيفة، وكونه مفعولاً لأجله غير مناسب‏.‏

وجوز بعضهم كون ذلك مصدراً لفعل من غر المذكور وليس بشيء، وأصل خيفة خوفة، ودون في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَدُونَ الجهر مِنَ القول‏}‏ صفة لمعمول حال محذوفة أي ومتكلماً كلاماً دون الجهر لأن دون لا تتصرف على المشهور؛ والعطف على تضرعاً، وقيل‏:‏ لا حاجة إلى ما ذكر والعطف على حاله، والمراد اذكره متضرعاً ومقتصداً‏.‏ وقيل‏:‏ إن العطف على قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فِى نَفْسِكَ‏}‏ لكن على معنى اذكره ذكراً في نفسك وذكراً بلسانك دون الجهر، والمراد بالجهر رفع الصوت المفرط وبما دونه نوع آخر من الجهر‏.‏ قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما‏:‏ هو أن يسمع نفسه وقال الإمام‏:‏ المراد أن يقع الذكر متوسطاً بين الجهر والمخافتة كما قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا‏}‏ ‏[‏الإسراء‏:‏ 110‏]‏ ويشعر كلام ابن زد أن المراد بالجهر مقابل الذكر في النفس، والآية عنده خطاب للمأموم المأمور بالإنصات أي اذكر ربك أيها المنصت في نفسك ولا تجهر بالذكر ‏{‏بالغدو‏}‏ جمع غدوة كما في «القاموس»، وفي «الصحاح» الغدو نقيض الرواح وقد غدا يغدو غدواً‏.‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏بالغدو‏}‏ أي بالغدوات جمع غدوة وهي ما بين صلاة الغداة وطلوع الشمس، فعبر بالفعل عن الوقت كما يقال‏:‏ أتيتك طلوع الشمس أي وقت طلوعها، وهو نص في أن الغدو مصدر لا جمع، وعليه فقد يقدر معه مضاف مجموع أي أوقات الغدو ليطابق قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏والاصال‏}‏ وهو كما قال الأزهري جمع أصل، وأصل جمع أصيل أعني ما بين العصر إلى غروب الشمس فهو جمع الجمع وليس للقلة وليس جمعاً لأصيل لأن فعيلاً لا يجمع على أفعال، وقل‏:‏ إنه جمع له لأنه قد يجمع عليه كيمين وأيمان، وقيل‏:‏ إنه جمع لأصل مفرداً كعنق ويجمع على أصلان أيضاً، والجار متعلق باذكر، وخص هذان الوقتان بالذكر قيل لأن الغدوة عندها ينقلب الحيوان من النوم الذي هو كالموت إلى اليقظة التي هي كالحياة، والعالم يتحول من الظلمة التي هي طبعة عدمية إلى النور الذي هو طبيعة وجودة، وفي الأصل الأمر بالعكس، أو لأنهما وقتا فراغ فيكون الذكر فيهما ألصق بالقلب، وقيل‏:‏ لأنهما وقتان يتعاقب فيهما الملائكة على ابن آدم، وقيل‏:‏ ليس المراد التخصيص بل دوام الذكر واتصاله أي اذكر كل وقت‏.‏ وقرأ أبو مجاز لاحق بن حميد السدوسي ‏{‏والإيصال‏}‏، وهو مصدر آصل إذ ادخل في الأصيل وهو مطابق لغدو بناء على القول بإفراده ومصدريته فتذكر ‏{‏وَلاَ تَكُنْ مّنَ الغافلين‏}‏ عن ذكر الله تعالى‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏206‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ‏(‏206‏)‏‏}‏

‏{‏إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ‏}‏ وهم ملائكة الملأ الأعلى، فالمراد من العندية القرب من الله تعالى بالزلفى والرضا لا المكانية لتنزه الله تعالى عن ذلك، وقيل‏:‏ المراد عند عرش ربك ‏{‏لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ‏}‏ بل يؤدونها حسبما أمروا به ‏{‏وَيُسَبّحُونَهُ‏}‏ أي ينزعونه عما لا يليق بحضرة كبريائه على أبلغ وجه ‏{‏وَلَهُ يَسْجُدُونَ‏}‏ أي ويخصونه بغاية العبودية والتذلل لا يشركون به غيره جل شأنه، وهو تعريض بمن عداهم من المكلفين كما يدل عليه تقديم ‏{‏لَهُ‏}‏ وجازات يؤخذ من مجموع الكلام كما آثره العلامة الطيبي لأنه تعليل للسابق على معنى ائتوا بالعبادة على وجه الاخلاص كما أمرتم فإن لم تأتوا بها كذلك فإنا مغنون عنكم وعن عبادتكم ان لنا عباداً مكرمين من شأنهم كذا وكذا فالتقديم على هذا للفاصلة، ولما في الآية من التعريض شرع السجود عند هذه الآية ارغاماً لمن أبى ممن عرض به‏.‏ قيل‏:‏ وقد جاء الأمر بالسجدة لآية أمر فيها بالسجود امتثالاً للأمر، أو حكي فيها استنكاف الكفرة عنه مخالفة لهم، أو حكى فيها سجود نحو الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تأسيا بهم، وهذا من القسم الثاني باعتبار التعريض أو من القسم الأخير باعتبار التصريح، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في سجوده لذلك كما روي ابن أبي شيبة عن ابن عمر «اللهم لك سجد سوادي وبك آمن فؤادي اللهم ارزقني علماً ينفعني وعملاً يرفعني» وأخرج أحمد‏.‏ وأبو داود‏.‏ والترمذي وصححه عن عائشة رضي الله تعالى عنها أنه صلى الله عليه وسلم كان يقول في سجود القرآن بالليل مراراً «سجد وجهي للذي خلقه وشق سمعه وبصره بحوله وقوته فتبارك الله أحسن الخالقين» وجاء عنها أيضاً «ما من مسلم سجد لله تعالى سجدة إلا رفعه الله تعالى بها درجة أو حط عنه بها خطيئة أو جمعهما له كلتيهما» وأخرج مسلم‏.‏ وابن ماجه‏.‏ والبيهقي عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «إذا قرأ ابن ردم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار» واستدل بالآية على أن إخفاء الذكر أفضل، ويوافق ذلك ما أخرجه أحمد من قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ «خير الذكر الخفي» وهي ناعية على جهلة زماننا من المتصوفة ما يفعلونه مما يستقبح شرعاً وعقلاً وعرفاً فإنا لله وإنا إليه راجعون‏.‏

هذا ومن باب الإشارة في الآيات‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة‏}‏ وهي الروح ‏{‏وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَهِىَ القلب *لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا‏}‏ أي ليميل إليها ويطمئن فكانت الروح تشم من القلب نسائم نفحان الألطاف ‏{‏فَلَمَّا تَغَشَّاهَا‏}‏ أي جعامعها وهو إشارة إلى النكاح الروحاني والصوفية يقولون‏:‏ إنه سائر في جميع الموجودات ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت ‏{‏حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفًا‏}‏ في البداية بظهور أدنى أثر من آثار الصفات البشرية في القلب الروحاني ‏{‏فَلَمَّا أَثْقَلَت‏}‏ كبرت وكثرت آثار الصفات ‏{‏دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا‏}‏ لأنهما خافا من تبدل الصفات الروحانية النورانية بالصفات النفسانية الظلمانية ‏{‏لَئِنْ ءاتَيْتَنَا صالحا‏}‏ للعبودية

‏{‏لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 189‏]‏ ‏{‏فَلَمَّا ءاتاهما صَالِحاً‏}‏ بحسب الفطرة من القوى ‏{‏جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا ءاتاهما‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 190‏]‏ أي جعل أولادهما لله تعالى شركاء فيما آتي أولادهما فمنهم عبد البطن ومنهم عبد الخميصة ومنهم من عبد الردهم والدينار ‏{‏إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله‏}‏ كائناً ما كان ‏{‏عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ‏}‏ في العجز وعدم التأثير ‏{‏فادعوهم‏}‏ إلى أي أمر كان ‏{‏فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صادقين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 194‏]‏ في نسبة التأثير إليهم ‏{‏أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا‏}‏ استفهام على سبيل الإنكار أي ليس لهم أرجل يمشون بها بل بالله عز وجل إذ هو الذي يمشيهم وكذا يقال فيها بعد ‏{‏قُلِ ادعوا شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 195‏]‏ إن استطعتم ‏{‏إِنَّ وَلِيّىَ الله‏}‏ حافظي ومتولي أمري ‏{‏الذى نَزَّلَ الكتاب وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 196‏]‏ أي من قام به في حال الاستقامة ‏{‏وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 198‏]‏ الحق ولا حقيقتك لأنهم عمي القلوب في الحقيقة، والضمير للكفار ‏{‏قُلِ العفو‏}‏ أي السهل الذي يتيسر لهم ولا تكلفهم ما يشق عليهم ‏{‏وَأْمُرْ بالعرف‏}‏ أي بالوجه الجميل، ‏{‏وَأَعْرِض عن الجاهلين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 199‏]‏ فلا تكافئهم بجهلهم‏.‏ عن جعفر الصادق رضي الله تعالى عنه ليس في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق من هذه الآية قيل وذلك لقوة دلالتها على التوحيد فإن من شاهد مالك النواصي وتصرفه في عباده وكونهم فيما يأتون ويطرون به سبحانه وتعالى لا بأنفسهم لا يشاقهم ولا يداقهم في تكاليفهم ولا يغضب في الأمر والنهي ولا يتشدد ويحلم عنهم، ‏{‏وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 200‏]‏ بالشهود والحضور فإنك ترى حينئذ أن لا فعل لغيره سبحانه، وهذا إشارة إلى ما يعتري الإنسان أحياناًمن الغضب وإيماء إلى علاجه بالاستعاذة قال بعضهم‏:‏ إن الغضب إنما يهيج بالإنسان إذا استقبح من المغضوب عليه عملاً من الأعمال ثم اعتقد في نفسه كونه قادراً وفي المغضوب عليه كونه عاجزاً، وإذا انكشف له نور من عالم العقل عرف أن المغضوب عليه إنما أقدم على ذلك العمل لأن الله تعالى خلق فيه داعية وقد سبقت عليه الكلمة الازلية فلا سبيل له إلى تركه وحينئذ يتغير غضبه‏.‏ وقد ورد من عرف سر الله تعالى في القدر هانت عليه المصائب، الاستعاذة بالله تعالى في المعنى طلب الالتجاء إليه باستكشاف ذلك النور، ‏{‏إِنَّ الذين اتقوا‏}‏ الشرك ‏{‏إِذَا مَسَّهُمْ طَئِفٌ مّنَ الشيطان‏}‏ لمة منه بنسبة الفعل إلى غيره سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏تَذَكَّرُواْ‏}‏ مقام التوحيد ومشاهدة الأفعال من الله تعالى‏:‏

‏{‏فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 201‏]‏ فعالية الله تعالى لا شيطان ولا فاعل غيره سبحانه في نظرهم ‏{‏وإخوانهم‏}‏ أي إخوان الشياطين من المحجوبين ‏{‏يمدونهم‏}‏ الشياطين في الغي وهو نسبة الفعل إلى سوى ‏{‏ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 202‏]‏ عن العناد والمراء والجدل، و‏{‏قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها‏}‏ أي جمعتها من تلقاء نفسك ‏{‏قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحِى إِلَىَّ مِنْ رَبّى‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 203‏]‏ لأني قائم به لا بنفسي ‏{‏وَإِذَا قُرِىء القرءان فاستمعوا لَهُ‏}‏ أي للقرآن بآذانكم الظاهرة ‏{‏ونصتوا‏}‏ بحواسكم الباطنة، وجوز أن يكون ضمير له للرب سبحانه، أي إذا قرىء القرآن فاستمعوا للرس جل شأنه فإنه المتكلم والمخاطب لكم به ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 204‏]‏ بالسمع الحقيقي أو برحمة تجلي المتكلم في كلامه بصفاته وأفعاله ‏{‏واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ‏}‏ بأن تتحلى بما يمكن التحلي به من صفات الله تعالى، وقيل‏:‏ هو على حد ‏{‏لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ‏}‏ ‏[‏الأحزاب‏:‏ 21‏]‏ ‏{‏تَضَرُّعًا وَخِيفَةً‏}‏ حسب اختلاف المقام ‏{‏وَدُونَ الجهر‏}‏ أي دون أن يظهر ذلك منك بل تكون ذاكراً به له ‏{‏بالغدو‏}‏ أي وقت ظهور نور الروح ‏{‏والاصال‏}‏ أي وقت غلبات صفات النفس ‏{‏وَلاَ تَكُن‏}‏ في وقت من الأوقات ‏{‏مّنَ الغافلين‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 205‏]‏ عن شهود الحدة الذاتية، وقال بعض الأكابر‏:‏ إن قوله سبحانه‏:‏ ‏{‏واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً‏}‏ إشارة إلى أعلى المراتب وهو حصة الواصلين المشاهدين، وقوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏وَدُونَ الجهر‏}‏ إشارة إلى المرتبة الوسطى وهي نصيب السائرين إلى مقام المشاهدة، وقوله جل شأنه‏:‏ ‏{‏وَلاَ تَكُنْ مّنَ الغافلين‏}‏ إيماء إلى مرتبة النازلين من السالكين، وفي ذكر الخوف اشعارء باستشعار هيبة الجلال كما قال‏:‏

أشتاقه فإذا بدا *** أطرقت من اجلاله لا خيفة بل هيبة

وصيانة لجمالة *** وذكروا أن حال المتدي والسالك منوطة برأي الشيخ فإنه الطبيب لأمراض القلوب فهو أعرف بالعلاج، فقد يرى له رفع الصوت بالذكر علاجاً حيث توقف قطع الخواطر وحديث النفس عليه، وفي عوارف المعارف للسهر وردي قدس سره لا يزال العبد يردد هذه الكلمة وسهلت على اللسان تشربها القلب ويصير الذكر حينئذ ذكر الذات، وهذا الذكر هو المشاهدة والمكاشفة والمعاينة، وذاك هو المقصد الأقصى من الخلوة، وقد يحصل ما ذكر بتلاوة القرآن أيضاً إذا أكثر التلاوة واجتهد في مواطأة القلب مع اللسان حتى تجري التلاوة على اللسان وتقوم مقام حديث النفس فيدخل على العبد سهولة في التلاوة والصلاة اه‏.‏

ونقل عنه أيضاً ما حاصله أن بنية العبد تحكي مدينة جامعة، وأعضاؤه وجوارحة بمثابة سكان المدينة، والعبد في إقباله على الذكر كمؤذن صعد منارة على باب المدينة يقصد اسماع أهل المدينة الأذان، فالذكر المحقق يقصد إيقاظ قلبه وانباء أجزائه وأبعاضه بذكر لسانه فهو يقول ببعضه ويسمع بكله إلى أن تنتقل الكلمة من اللسان إلى القلب فيتنور بها ويظفر بجدوى الأحوال ثم ينعكس نور القلب على القالب فيتزين بمحاسن الأعمال اه‏.‏

‏{‏إِنَّ الذين عِندَ رَبّكَ‏}‏ وهم الفانون الباقون به سبحانه وتعالى أرباب الاستقامة ‏{‏لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ‏}‏ لعدم احتجابهم بالانانية ‏{‏وَيُسَبّحُونَهُ‏}‏ بنفيها ‏{‏وَلَهُ يَسْجُدُونَ‏}‏ ‏[‏الأعراف‏:‏ 206‏]‏ بالفناء التام وطمس البقية والله تعالى هو الباقي ليس في الوجود سواه‏.‏

‏[‏سورة الأنفال‏]‏

تفسير الآية رقم ‏[‏1‏]‏

‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ‏(‏1‏)‏‏}‏

‏{‏بِسْمِ اللَّهِ الرحمن الرحيم يَسْئَلُونَكَ عَنِ *الانفال‏}‏ جمع نفل بالفتح وهو الزيادة ولذا قيل للتطوع نافلة وكذا لولد الولد، ثم صار حقيقة في العطية ومنه قول لبيد‏:‏

ان تقوى ربنا خير نفل *** وباذن الله ريثي وعجل

لأنها لكونها تبرعاً غير لازم كأنها زيادة ويسمى به الغنيمة أيضاً وما يشترطه الإمام للغازي زيادة على سهمه لرأي يراه سواء كان لشخص معين أو لغير معين كمن قتل قتيلا فله سلبه، وجعلوا من ذلك ما يزيده الإمام لمن صدر منه أثر محمود في الحرب كبراز وحسن إقدام وغيرهما، واطلاقه على الغنيمة باعتبار أنها منحة من الله تعالى من غير وجوب، وقال الإمام عليه الرحمة‏.‏ لأن المسلمين فضلوا بها على سائر الأمم التي لم تحل لهم، ووجه التسمية لا يلزم اطراده، وفي الخبر أن المغانم كانت محرمة على الأمم فتفلها الله تعالى هذه الأمة، وقيل‏:‏ لأنها زيادة على ما شرع الجهاد له وهو إعلاء كلمة الله تعالى وحماية حوزة الإسلام فإن اعتبر كون ذلك مظفوراً به سمي غنيمة، ومن الناس من فرق بين الغنيمة والنفل بالعموم والخصوص، فقيل‏:‏ الغنيمة ما حصل مستغنماً سواء كان ببعث أولا باستحقاق أولا قبل الظفر أو بعده، والنفل ما قبل الظفر أو ما كان بغير قتال وهو الفيء؛ وقيل‏:‏ ما يفضل عن القسمة ثم إن السؤال كما قال الطيبي ونقل عن الفارسي إما لاستدعاء معرفة أو يؤدي إليها وإما لاستدعاء جدا أو ما يؤدي إليه، وجواب الأول باللسان وينوب عنه اليد بالكتابة أو الإشارة ويتعدى بنفسه وبعن والباء، وجواب الثاني باليد وينوب عنها اللسان موعدا وردا ويتعدى بنفسه أو بمن وقد يتعدى لمفعولين كأعطى واختار، وقد يكون الثاني جملة استفهامية نحو ‏{‏سَلْ بَنِى إسراءيل كَمَا ءاتيناهم‏}‏ ‏[‏البقرة‏:‏ 211‏]‏ والمراد بالأنفال هنا الغنائم كما روي عن ابن عباس‏.‏ ومجاهد‏.‏ وقتادة والضحاك‏.‏ وابن زيد‏.‏ وطائفة من الصحابة وغيرهم، وبالسؤال السؤال لاستدعاء المعرفة كما اختاره جمع من المفسرين لتعديه بعن والأصل عدم ارتكاب التأويل، ويؤيد ذلك ما أخرجه أحمد‏.‏ وابن حبان‏.‏ والحاكم من حديث عبادة بن الصامت رضي الله تعالى عنه وهو سبب النزول أن المسلمين اختلفوا في غنائم بدر وفي قسمتها فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف تقسم ولمن الحكم فيها أهو للمهاجرين أم للأنصار أم لهم جميعا‏؟‏ فنزلت هذه الآية‏.‏

وقال بعضهم‏:‏ إن السؤال استعطاء‏.‏ والمراد بالنفل ما شرط للغازي زائداً على سهمه، وسبب النزول غير ما ذكر‏.‏ فقد أخرج عبد الرزاق في المصنف‏.‏ وعبد بن حميد‏.‏ وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ من قتل قتيلاً فله كذا ومن جاء بأسير فله كذا فجاء أبو اليسر بن عمر والأنصاري بأسيرين فقال‏:‏ يا رسول الله إنك قد وعدتنا‏.‏

فقام سعد بن عبادة فقال‏:‏ يا رسول الله إنك إن أعطيت هؤلاء لم يبق لأصحابك شيء وإنه لم يمنعنا من هذه زهادة في الأجر ولا جبن عن العدو وإنما قمنا هذا المقام محافظة عليك أن يأتوك من ورائك فتشاجروا فنزل القرآن، وادعوا زيادة ‏{‏عَنْ‏}‏ واستدلوا لذلك بقراءة ابن مسعود، وسعد بن أبي وقاص‏.‏ وعلي بن الحسين‏.‏ وزيد‏.‏ ومحمد الباقر‏.‏ وجعفر الصادق‏.‏ وطلحة بن مصرف ‏{‏يَسْأَلُونَكَ الانفال‏}‏ وتعقب بأن هذه القراءة من باب الحذف والايصال وليست دعوى زيادة ‏{‏عَنْ‏}‏ في القراءة المتواترة لسقوطها في القراءة الأخرى أولى من دعوى تقديرها في تلك القراءة لثبوتها في القراءة المتواترة بل قد ادعى بعض أنه ينبغي حمل قراءة اسقاط ‏{‏عَنْ‏}‏ على ارادتها لأن حذف الحرف وهو مراد معنى أسهل من زيادته للتأكيد، على أنه يبعد القول بالزيادة هنا الجواب بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ الانفال لِلَّهِ والرسول‏}‏ فإنه المراد به اختصاص أمرها وحكمها بالله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم فيقسمها النبي عليه الصلاة والسلام كما يأمره الله تعالى من غير أن يدخل فيه رأي أحد، فإن مبنى ذلك القول القول بأن السؤال استعطاء ولو كان كذلك لما كان هذا جواباً له فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالله تعالى والرسول صلى الله عليه وسلم لا ينافي إعطاءه إياهم بل يحققه لأنهم إنما يسألونه بموجب شرط الرسول عليه الصلاة والسلام الصادر عنه باذن الله تعالى لا بحكم سبق أيديهم إليه أو نحو ذلك مما يخل بالاختصاص المذكور‏.‏

وحمل الجواب على معنى أن الأنفال بذلك المعنى مختصة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا حق فيها للمنفل كائناً من كان لا سبيل إليه قطعاً ضرورة ثبوت الاستحقاق بالتنفيل، وإدعاء أن ثبوته بدليل متأمر التزم لتكرر النسخ من غير علم بالناسخ الأخير، ولا مساغ للمصير إلى ما ذهب إليه مجاهد‏.‏ وعكرمة‏.‏ والسدى من أن الأنفال كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة ليس لأحد فيها شيء بهذه الآية فنسخت بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ لما أن المراد بالأنفال فيما قالوا هو المعنى الأول حسبما نطق به قوله تعالى‏:‏ ‏{‏واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُم مّن شَىْء‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 41‏]‏ الآي، على أن الحق أنه لا نسخ حينئذ حسبما قاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، بل بين هنا إجمالاً أن الأمر مفوض لرسول الله صلى الله عليه وسلم وشرح فيما بعد مصارفها وكيفية قسمتها، وإدعاء اقتصار الاختصاص بالرسول صلى الله عليه وسلم على الأنفال المشروطة يوم بدر بجعل اللام للعهد مع بقاء استحقاق المنفل في سائر الأنفال المشروطة يأباه مقام بيان الأحكام كما ينبىء عنه إظهار الأنفال في مقام الاضمار، على أن الجواب عن سؤال الموعود ببيان كونه له عليه الصلاة والسلام خاصة مما يليق بشأنه الكريم أصلاً‏.‏

وقد روي عن سعد بن أبي وقاص أنه قال‏:‏ قتل أخي عمير يوم بدر فقتلت به سعيد بن العاص وأخذت سيفه فاعجبني فجئت به رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ إن الله قد شفى صدري من المشركين فهب لي هذا السيف فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ليس هذا لي ولا لك اطرحه في القبض فطرحته وبي ما لا يعلمه إلا الله من قتل أخي وأخذ سلبي فما جاوزت إلا قليلاً حتى نزلت سورة الأنفال فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ يا سعد إنك سألتني السيف وليس لي وقد صار لي فاذهب فخذه، وهذا كما ترى يقتضي عدم وقوع التنفيل يومئذ وإلا لكان سؤال السيف من سعد بموجب شرطه عليه الصلاة والسلام ووعده لا بطريق الهبة المبتدأة وحمل ذلك من سعد على مراعاة الأدب مع كون سؤاله بموجب الشرط يرده رده صلى الله عليه وسلم قبل النزول وتعليله بقوله‏:‏ ليس هذا لي لاستحالة أن يعد صلى الله عليه وسلم بما لا يقدر على إنجازه واعطائه عليه الصلاة والسلام بعد النزول وترتيبه على قوله وقد صار لي ضرورة إن مناط صيرورته له صلى الله عليه وسلم قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الانفال لِلَّهِ والرسول‏}‏ والفرض إنه المانع من اعطاء المسؤول، ومما هو نص في الباب قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ فإنه لو كان السؤال طلبا للمشروط لما كان فيه محذور يجب اتقاؤه قاله شيخ الإسلام عليه الرحمة، وحاصله إنكار وقوع التنفيل حينئذ، وعدم صحة حمل السؤال على الاستعطاء والأنفال على المعنى الثاني من معنييها، وأنا أقول‏:‏ قد جاء خبر التنفيل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما من الطريق الذي ذكرناه ومن طريق آخر أيضاً، فقد أخرج ابن أبي شيبة‏.‏ وأبو داود‏.‏ والنسائي‏.‏ وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن حبان‏.‏ وأبو الشيخ‏.‏ والبيهقي في الدلائل‏.‏ والحاكم وصححه عنه رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ «لما كان يوم بدر قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ من قتل قتيلاً فله كذا وكذا ومن أسر أسيراً فله كذا وكذا فاما المشيخة فثبتوا تحت الرايات وأما الشبان فتسارعوا إلى القتل والغنائم فقالت المشيخة للشبان‏:‏ أشركونا معكم فانا كنا لكم ردءاً ولو كان منكم شيء للجأتم إلينا فاختصموا إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفال‏}‏ الآية فقسم الغنائم بينهم بالسوية» ويشير إلى وقوعه أيضاً ما أخرجه أحمد‏.‏

وعبد بن حميد‏.‏ وابن جرير‏.‏ وأبو الشيخ‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والحاكم‏.‏ والبيهقي في السنن عن أبي إمامة قال‏:‏ سألت عبادة بن الصامت عن الأنفال فقال‏:‏ فينا أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النفل فساءت فيه أخلاقنا فانتزعه الله تعالى من أيدينا وجعله إلى رسوله صلى الله عليه وسلم فقسمه عليه الصلاة والسلام بين المسلمين عن بواء، ولعل في الباب غير هذه الروايات فكان على الشيخ حيث أنكر وقوع التنفيل أن يطعن فيها بضعف ونحوه ليتم له الغرض‏.‏

وما ذكره من حديث سعد بن أبي وقاص فقد أخرجه أحمد‏.‏ وابن أبي شيبة عنه وهو مع انه وقع فيه سعيد بن العاصي والمحفوظ كما قال‏:‏ أبو عبيد العاصي بن سعيد مضطرب المتن، فقد أخرج عبد بن حميد‏.‏ والنحاس‏.‏ وأبو الشيخ‏.‏ وابن مردويه عن سعد انه قال‏:‏ «أصاب رسول الله صلى الله عليه وسلم غنيمة عظيمة فإذا فيها سيف فأخذته فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت‏:‏ نفلني هذا السيف فأنا من علمت فقال‏:‏ رده من حيت أخذته فرجعت به حتى إذا أردت أن ألقيه في القبض لامتني نفسي فرجعت إليه عليه الصلاة والسلام فقلت‏:‏ أعطنيه فشد لي صوته وقال رده من حيث أخذته فانزل الله تعالى‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفال‏}‏»‏.‏

فإن هذه الرواية ظاهرة في أن السيف لم يكن سلبا كما هو ظاهر الرواية الأولى بل أن سعدا رضي الله تعالى عنه وجده في الغنيمة وطلبه نفلا على سهمه الشائع فيها‏.‏ وأخرج النحاس في ناسخه عن سعيد بن جبير أن سعدا ورجلاً من الأنصار خرجا يتنفلان فوجدا سيفا ملقى فخراً عليه جميعا فقال سعد‏:‏ هو لي وقال الأنصاري‏:‏ هو لي لا أسلمه حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتياه فقصا عليه القصة فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ليس لك يا سعد ولا للأنصاري ولكنه لي فنزلت ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفال‏}‏ الآية، ومخالفة هذه الرواية للروايتين السابقتين المختلفتين كما علمت في غاية الظهور فلا يكاد يعول على إحداهما إلا بإثبات أنها الأصح، ولم نقف على أنهم نصوا على تصحيح الرواية التي ذكرها الشيخ فضلاً عن النص على الأصحية‏.‏

نعم أخرج أحمد‏.‏ وأبو داود‏.‏ والترمذي‏.‏ وصححه والنسائي وابن جرير‏.‏ وابن المنذر‏.‏ وابن أبي حاتم‏.‏ وابن مردويه‏.‏ والحاكم وصححه‏.‏ والبيهقي في السنن عن سعد المذكور رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ ‏"‏ قلت يا رسول قد شفاني الله تعالى اليوم من المشركين فهب لي هذا السيف قال‏:‏ إن هذا السيف لا لك ولا لي ضعه فوضعته ثم رجعت فقلت‏:‏ عسى يعطي هذا السيف اليوم من لا يبلي بلائي إذا رجل يدعوني من ورائي فقلت‏:‏ قد أنزل في شيء قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ كنت سألتني هذا السيف وليس هو لي وإني قد وهب لي فهو لك وأنزل الله تعالى هذه الآية‏:‏ ‏{‏يَسْأَلُونَكَ عَنِ الانفال‏}‏ ‏"‏

الخ، فهذه الرواية وإن نص فيها على التصحيح إلا أنه ليست طاهرة في أن السيف كان سلباً له من عمير كما هو نص الرواية الأولى، وإن قلنا‏:‏ إن هذه الرواية وإن لم تكن موافقة للأولى حذو القذة بالقذة لكنها ليست مخالفة لها، وزيادة الثقة مقبولة سواء كانت في الأول أم في الآخر أم في الوسط، فلا بد من القول بالنسخ كما هو إحدى الروايات عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما لما أنها ظاهرة في كون الأنفال صارت ملكاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم ليس لأحد فيها حق أصلاً إلا أن يجود عليه عليه الصلاة والسلام كما يجوز من سائر أمواله، والمولى المذكور ذهب إلى القول بعدم النسخ ولم يعلم أن هذا الخبر الذي استند إليه في إنكار وقوع التنفيل يعكر عليه، وإدعاء أن معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ فيه «وقد صار لي» أنه صار حكمه لي لكن عبر بذلك مشاكلة لما في الآية يرده ما في الرواية الأخرى المنصوص على حصتها من الترمذي‏.‏ والحاكم «وإني قد وهب لي»، وحمل ذلك أيضاً على مثل ما حمل عليه الأول مما لا يكاد يقدم عليه عارف بكلام العرب لا سيما كلام أفصح من نطق بالضاد صلى الله عليه وسلم، وما ذكره قدس سره من أن قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قُلِ الانفال‏}‏ الخ لا يكون جواباً لسؤال الاستعطاء فإن اختصاص حكم ما شرط لهم بالرسول عليه الصلاة والسلام لا ينافي الإعطاء بل يحققه، وقد يجاب عنه بالتزام الحمل الذي ادعى أن لا سبيل إليه قطعاً ويقال بالنسخ، وهو من نسخ السنة قبل تقررها بالكتاب، وأن المنسوخ إنما هو ذلك التنفيل، والتنفيل الذي يقول به العلماء اليوم هو أن يقول الإمام من قتل قتيلاً فله سلبه أو يقول للسرية جعلت لكم الربع بعد الخمس أي بعدما يرفع الخمس اللفقراء، وقد يكون بغير ذلك كالدراهم والدنانير‏.‏ وذكر في «السير الكبير» أنه لو قال‏:‏ ما أصبتم فهو لكم ولم يقل بعد الخمس لم يجز لأن فيه إبطال الخمس الثابت بالنص، وبعين ذلك يبطل ما لو قال‏:‏ من أصاب شيئاً فهو له لاتحاد اللازم فيهما بل هو أولى بالبطلان، وبه أيضاً ينتفي ما قالوا‏:‏ لو نفل بجميع المأخوذ جاز إذا رأى مصلحة، وفيه زيادة إيحاش الباقين وإيقاع الفتنة‏.‏ وذكر السادة الشافعية أن الأصح أن النفل يكون من خمس الخمس المرصد للمصالح أن نفل مما سيغنم في هذا القتال لأنه المأثور عندهم كما جاء عن ابن المسيب‏.‏

ويحتمل أن التنفيل المنسوخ الواقع يوم بدر عن القائل به لم يكن كهذا الذي ذكرناه عن أئمتنا وكذا عن الشافعية الثابت عندهم بالأدلة المذكورة في كتب الفريقين، والأخبار التي وقفنا عليها في ذلك التنفيل غير ظاهرة في اتحاده مع هذا التنفيل‏.‏

وحينئذ فما نسخ لم يثبت وإنما ثبت غيره، وربما يقال‏:‏ على فرض تسليم أن ما ثبت هو ما نسخ أن دليل ثبوته هو قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ياأيها النبى حَرّضِ المؤمنين عَلَى القتال‏}‏ ‏[‏الأنفال‏:‏ 65‏]‏ فإن في ذلك من التحريض ما لا يخفى، ودعوى أن حمل أل في الأنفال على العهد يأباه المقام في حيز المنع، ومما يستأنس به للعهد أنه يقال لسورة الأنفال سورة بدر فلا بدع أن يراد من الأنفال أنفال بدر، وإنباء الإظهار في مقام الاضمار على ما ادعاه في غاية الخفاء، وكون الجواب عن سؤال الموعود ببيان اختصاصه به عليه الصلاة والسلام مما لا يليق بشأنه الكريم أصلاً مما لا يكاد يسلم، كيف والحكم إلهي والنبي صلى الله عليه وسلم مأمور بالإبلاغ، وقد يقال‏:‏ حاصل الجواب يا قوم إن ما وعدتكم به بإذن الله تعالى قد ملكنيه سبحانه وتعالى دونكم وهو أعلم بالحكم فيما فعل أولاً وآخراً فاتقوا الله من سوء الظن أو عدم الرضا بذلك‏.‏ ومن هنا يعلم حسن الأمر بالتقوى بعد ذلك الجواب وبطلان ما ادعاه المولى المدقق من أن هذا الأمر نص في الباب، وقد يقال أيضاً‏:‏ لا مانع من أن يحمل السؤال على الاستعلام، والاختصاص على اختصاص الحكم مع كون المراد بالأنفال المعنى الثاني، والمعنى يسألونك عن حال ما وعدتهم إياه هل يستحقونه وإن حرم غيرهم ممن كان ردأ وملجأ حيث إنك وعدتهم وأطلقت لهم الأمر قل إن ذلك الموعود قد نسخ استحقاقكم له بالوعد المأذون فيه من قبل وفوض أمره إلى ولم يحجر علي بإعطائه لكم دون غيركم بل رخصت أن أساوي أصحابكم الذين كانوا ردأ لكم معكم لئلا يرجع أحد من أهل بدر فخفى حنين ويستوحشوا من ذلك وتفسد ذات البين، فاتقوا الله تعالى من الاستقلال بما أخذتموه أو إخفاء شيء منه بناء على أنكم كنتم موعدين به ‏{‏وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ‏}‏ بالرد والمواساة فيما حل بأيديكم ‏{‏وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ‏}‏ في كل ما يأمر به وينهى عنه في ذلك مصالح لا تعلمونها وإنما يعلمها الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، وتقرير السؤال والجواب على هذا الأسلوب وإن لم يكن ظاهراً إلا أنه ليس بالبعيد جداً، ثم ما ذكره قدس سره من أن حديث النسخ الواقع في كلام مجاهد، وعكرمة‏.‏ والسدي إنما هو للأنفال بالمعنى الأول لدلالة الناسخ على ذلك مسلم، لكن جاء في آخر رواية النحاس عن ابن جبير السابقة في قصة سعد وصاحبه الأنصاري رضي الله تعالى عنهما ما يوهم كون النسخ للآية مع حمل الأنفال على غير ذلك المعنى وليس كذلك، هذا ثم إني أعود فأقول‏:‏ إن هذا التكلف الذي تكلفناه إنما هو لصيانة الروايات الناطقة بكون سبب النزول ما استند إليه القائل بأن الأنفال بالمعنى الثاني عن الإلغاء قبل الوقوف على ضعفها، ومجرد ما ذكره المولى قدس سره لا يدل على ذلك، ألا تراهم كيف يعدلون عن ظواهر الآيات إذا صح حديث يقتضي ذلك، وإلا فأنا لا أنكر أن كون حمل الأنفال على المعنى الأول والذهاب إلى أن الآية غير منسوخة والسؤال للاستعلام أقل مؤنة من غيره فتأمل ذاك والله سبحانه وتعالى يتولى هداك، والمراد بقوله تعالى‏:‏ ‏{‏فاتقوا الله‏}‏ الخ على هذا أنه إذا كان أمر الغنائم لله ورسوله صلى الله عليه وسلم فاتقوه سبحانه وتعالى واجتنبوا ما أنتم فيه من المشاجرة فيها والاختلاف الموجب لشق العصا وسخطه تعالى، أو فاتقوه في كل ما تأتون وتذرون فيدخل ما هم فيه دخولاً أولياً، وأصلحوا ما بينكم من الأحوال بترك الغلول ونحوه، وعن السدي بعدم التساب‏.‏

وعن عطاء كان الإصلاح بينهم «أن دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال‏:‏ اقسموا غنائمكم بالعدل‏:‏ فقالوا‏:‏ قد أكلنا وأنفقنا‏.‏ فقال عليه الصلاة والسلام‏:‏ ليرد بعضكم على بعض» و‏{‏ذَاتُ‏}‏ كماقيل بمعنى صاحبة صفة لمفعول محذوف‏.‏ و‏{‏بَيْنَ‏}‏ أما بمعنى الفراق أو الوصل أو ظفر أي أحوالاً ذات افتراقكم أو ذات وصلكم أو ذات الكمال المتصل بكم‏.‏ وقال الزجاج وغيره‏:‏ إن ‏{‏ذَاتُ‏}‏ هنا بمنزلة حقيقة الشيء ونفسه كما بنه ابن عطية وعليه استعمال المتكلمين، ولما كانت الأحوال ملابسة للبين أضيفت إليه كما تقول‏:‏ اسقني ذا إنائك أي ما فيه جعل كؤنه صاحبه، وذكر الاسم الجليل في الأمرين لتربية المهابة وتعليل الحكم‏.‏

وذكر الرسول صلى الله عليه وسلم مع الله تعالى أولاً وآخراً لتعظيم شأنه وإظهار شرفه والإيذان بأن طاعته عليه الصلاة والسلام طاعة الله تعالى، وقال غير واحد‏:‏ إن الجمع بين الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم أولاً لأن اختصاص الله تعالى بالأمر والرسول صلى الله عليه وسلم بالامتثال، وتوسيط الأمر بإطلاح ذات البين بين الأمر بالتقوى والأمر بالطاعة لإظهار كمال العناية بالإصلاح بحسب المقام وليندرج الأمر به بعينه تحت الأمر بالطاعة‏.‏

وقرأ ابن محيصن ‏{‏يَسْأَلُونَكَ‏}‏ بحذف الهمزة وإلقاء حركتها على اللام وإدغام نون عن فيها ولا اعتداد بالحركة العارضة ‏{‏إِن كُنتُمْ‏}‏ متعلق بالأوامر الثلاثة، والجواب محذوف ثقة بدلالة المذكورة عليه أو هو الجواب على الخلاف المشهور، وأياً ما كان فالمراد بيان ترتب ما ذكر عليه لا التشكيك في إيمانهم، وهو يكفي في التعليق بالشرط، والمراد بالايمان التصديق، ولا خفاء في اقتضائه ما ذكر على معنى أنه من شأنه ذلك لا أنه لازم له حقيقة‏.‏ وقد يراد بالايمان الايمان الكامل والأعمال شرط فيه أو شطر؛ فالمعنى إن كنتم كاملي الايمان فإن كمال الايمان يدور على تلك الخصال الثلاثة الاتقاء والإصلاح وإطاعة الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم، ويؤيد إرادة الكمال

قوله سبحانه وتعالى‏:‏

تفسير الآية رقم ‏[‏2‏]‏

‏{‏إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آَيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ‏(‏2‏)‏‏}‏

‏{‏المقسطين إِنَّمَا المؤمنون‏}‏ الخ إذا المراد به قطعا الكاملون في الايمان وإلا لم يصح الحصر، وهو حينئذ جار على ما هو الأصل المشهور في النكرة إذا أعيدت معرفة، وعلى الوجه الأول لا يكون هذا عين النكرة السابقة، ويلتزم القول بأن القاعدة أغلبية كما قد صرحوا به في غير ما موضع، أي إنما المؤمنون الكاملون في الايمان المخلصون فيه ‏{‏الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ‏}‏ أي فزعت استعظاماً لشأنه الجليل وتهيباً منه جل وعلا والاطمئنان المذكور في قوله سبحانه وتعالى‏:‏ ‏{‏أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب‏}‏ ‏[‏الرعد‏:‏ 28‏]‏ لا ينافي الوجل والخوف لأنه عبارة عن ثلج الفؤاد وشرح الصدر بنور المعرفة والتوحيد وهو يجامع الخوف، وإلى هذا ذهب ابن الخازن، ووفق بعضهم بين الآيتين بأن الذكر في إحداهما ذكر رحمة وفي الأخرى ذكر عقوبة فلا منافاة بينهما‏.‏ وأخرج البيهقي وجماعة عن السدي أنه قال في الآية‏:‏ هو الرجل يريد أن يظلم أو يهم بمعصية فيقال له‏:‏ اتق الله تعالى فيجل قلبه، وحمل الوجل فيها على الخوف منه تعالى كلما ذكر أبلغ في المدح من حمله على الخوف وقت الهم بمعصية أو إرادة ظلم‏.‏ وهذا الوجل في قلب المؤمن كضرمة السعفة كما جاء عن عائشة رضي الله تعالى عنها‏.‏

وأخرج ابن جرير وغيره عن أم الدرداء أن الدعاء عند ذلك مستجاب، وعلامته حصول القشعريرة‏.‏

وقرىء ‏{‏وَجِلَتْ‏}‏ بفتح الجيم ومضارعه يجل، وأما وجل بالكسر فمضارعه يوجل وجاء ييجل وياجل وهي لغات أربع حكاها سيبويه، وقرأ عبد الله ‏{‏فَرَّقْتَ‏}‏ أي خافت ‏{‏وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ ءاياته‏}‏ أي القرآن كما روى عن ابن عباس ‏{‏زَادَتْهُمْ إيمانا‏}‏ أي تصديقاً كما هو المتبادر فإن تظاهر الأدلة وتعاضد الحجج مما لا ريب في كونه موجباً لذلك، وهذا أحد أدلة من ذهب إلى أن الإيمان يقبل الزيادة والنقص، وهو مذهب الجم الغفير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين وبه أقوال لكثرة الظواهر الدالة على ذلك من الكتاب والسنة من غير معارض لها عقلاً، بل قد احتج عليه بعضهم بالعقل أيضاً؛ وذلك أنه لو لم تتفاوت حقيقة الإيمان لكان إيمان آحاد الأمة بل المنهمكين في الفسق والمعاصي مساوياً لإيمان الأنبياء والملائكة عليهم الصلاة والسلام، واللازم باطل فكذا الملزوم، وقال محيي الدين النووي في معرض بيان ذلك‏:‏ إن كل أحد يعلم أن ما في قلبه يتفاضل حتى يكون في بعض الأحيان أعظم يقيناً وإخلاصاً منه في بعضها، فكذلك التصديق والمعرفة بحسب ظواهر البراهين وكثرتها، وأجابوا عما اعترض به عليه من أنه متى قبل ذلك كان شكاً وهو خروج عن حقيقته بأن مراتب اليقين متفاوتة إلى علم اليقين وحق اليقين وعين اليقين مع أنه لا شك معها، وذهب الإمام أبو حنيفة رضي الله تعالى عنه وكثير من المتكلمين إلى أن الإيمان لا يزيد ولا ينقص، واختاره أمام الحرمين محتجين بأنه اسم للتصديق البالغ حد الجزم والإذعان وذلك لا يتصور فيه زيادة ولا نقصان، فالمصدق إذا أتى بالطاعات أو ارتكب المعاصي فتصديقه بحاله لم يتغير أصلاً، وإنما يتفاوت إذا كان اسماً للطاعات المتفاوتة قلة وكثرة على ما ذهب إليه القلانسي وجماعة من السلف، وبما رواه الفقيه أبو الليث السمرقندي في تفسيره عن محمد بن الفضل‏.‏

وأبي القاسم الساباذي عن فارس بن مردويه عن محمد بن الفضل بن العابد عن يحيى بن عيسى عن أبي مطيع عن حماد بن سلمة عن أبي المهزم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ جاء وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا‏:‏ يا رسول الله الايمان يزيد وينقص‏؟‏ فقال‏:‏ «الايمان مكمل في القلب زيادته ونقصانه كفر»‏.‏ وأجابوا عما تمسك به الأولون من الآيات والأحاديث بأن الزيادة بحسب الدوام والثبات وكثرة الزمان والساعات‏.‏ وإيضاحه ما قاله إمام الحرمين‏:‏ أن النبي صلى الله عليه وسلم يفضل من عداه باستمرار تصديقه وعصمة الله تعالى إياه من مخامرة الشكوك والتصديق عرض لا يبقى بشخصه زمانين بل بتجدد أمثاله فتقع للنبي صلى الله عليه وسلم دون غيره متوالية فيثبت له صلى الله عليه وسلم أعداد من الايمان لا يثبت لغيره إلا بعضها فيكون إيمانه أكثر‏.‏ واعترض هذا بأن حصول المثل بعد انعدام الشيء لا يكون زيادة فيه ودفع بأن المراد زيادة إعداد حصلت وعدم البقاء لا ينافي ذلك، وأجابوا أيضاً بأن المراد الزيادة بحسب زيادة ما يؤمن به، والصحابة رضي الله تعالى عنهم كانوا آمنوا في الجملة وكانت الشرعية غير تامة والأحكام تتنزل شيئاً فشيئاً فكانوا يؤمنون بكل ما يتجدد منها ولا شك في تفاوت إيمان الناس بملاحظة التفاصيل كثرة وقلة ولا يختص ذلك بعصر النبوة لإمكان الإطلاع عليها في غيره من العصور وبأن المراد زيادة ثمرته وإشراق نوره في القلب فإن نوره يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي، ولا يخفى أن الحجة الأولى يعلم جوابها مما ذكرناه أولاً، وأما الحجة الثانية التي ذكرها أبو الليث فمما لا يعول عليها عند الحفاظ أصلاً لأن رجال السند إلى أبي مطيع كلهم مجهولون لا يعرفون في شيء من كتب التواريخ المشهورة، وأما أبو مطيع وهو الحكم بن عبد الله بن مسلمة البلخي فقد ضعفه أحمد بن حنبل‏.‏ ويحيى بن معين‏.‏ وعمرو بن علي الفلاس‏.‏ والبخاري‏.‏ وأبو داود‏.‏ والنسائي‏.‏ وحاتم الرازي‏.‏ وأبو حاتم محمد بن حبان البستي‏.‏ والعقيلي‏.‏ وابن عدي‏.‏ والدارقطني وغيرهم‏.‏

وأما أبو المهمز وقد تصحف على الكتاب؛ واسمه يزيد بن سفيان فقد ضعفه أيضاً غير واحد وتركه شعبة بن الحجاج، وقال النسائي‏:‏ متروك، وقد اتهمه شعبة بالوضع حيث قال‏:‏ لو أعطوه فلسين لحدثهم سبعين حديثاً، ومن مارس الأحاديث النبوية لا يشك في أن ذلك اللفظ ليس منها في شيء، وما ذكره إمام الحرمين على ما فيه مبني على تجدد الأعراض وعدم بقائها زمانين، والمسألة خلافية، ودون إثبات ذلك خرط القتاد‏.‏

وما أجابوا به أولاً‏:‏ من أن زيادة الايمان بحسب زيادة المؤمن به مع كونه خلاف الظاهر ولا داعي إليه عند المنصف لا يكاد يتأتى في قوله تعالى‏:‏ ‏{‏الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إيمانا‏}‏ ‏[‏آل عمران‏:‏ 173‏]‏ وقوله تعالى‏:‏ ‏{‏هُوَ الذى أَنزَلَ السكينة فِى قُلُوبِ المؤمنين لِيَزْدَادُواْ إيمانا مَّعَ إيمانهم‏}‏ ‏[‏الفتح‏:‏ 4‏]‏ إذ ليس هناك زيادة مشروع يحصل الايمان به ليقال‏:‏ إن زيادة الايمان بحسب زيادة المؤمن به، وحال الجواب الثاني‏:‏ لا يخفى عليك‏.‏

وذهب جماعة منهم الإمام الرازي وإمام الحرمين في قول إلى أن الخلاف في زيادة الايمان ونقصانه وعدمهما لفظي وهو فرع تفسير الايمان، فمن فسره بالتصديق قال‏:‏ إنه لا يزيد ولا ينقص، ومن فسره بالأعمال مع التصديق قال‏:‏ إنه يزيد وينقص، وعلى هذا قول البخاري‏:‏ لقيت أكثر من ألف رجل من العلماء بالأمصار فما رأيت أحداً منهم يختلف في أن الايمان قول وعمل ويزيد وينقص، وهو المعنى بما روى عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما قال‏:‏ «قلنا يا رسول الله إن الايمان يزيد وينقص قال‏:‏ نعم يزيد حتى يدخل صاحبه الجنة وينقص حتى يدخل صاحبه النار»‏.‏ واعترض على هذا بأن عدم قبول الايمان الزيادة والنقص على تقدير كون الطاعات داخلة في مسماه أولى وأحق من عدم قبوله ذلك إذا كان مسماه التصديق وحده، أما أولاً‏:‏ فلأنه لا مرتبة فوق كل الأعمال لتكون زيادة ولا إيمان دونه ليكون نقصاً، وأما ثانياً‏:‏ فلأن أحداً لا يستكمل الايمان حينئذ والزيادة على ما لم يكمل بعد محال‏.‏ وأجيب بأن هذا إنما يتوجه على المعتزلة والخوارج القائلين بانتفاء الايمان بانتفاء شيء من الأعمال ونحن إنما نقول‏:‏ إنها شرط كمال فيه واللازم عند الانتفاء انتفاء الكمال وهو غير قادح في أصل الايمان والحق أن الخلاف حقيقي وأن التصديق يقبل التفاوت بحسب مراتب فما المانع من تفاوته قوة وضعفاً كما في التصديق بطلوع الشمس والصديق بحدوث العالم وقلة وكثرة كما في التصديق الإجمالي والتصديق التفصيلي المتعلق بالكثير وما على إذا خالفت في بعض المسائل مذهب الإمام الأعظم أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه للأدلة التي لا تكاد تحصى فالحق أحق بالاتباع والتقليد في مثل هذه المسائل من سنن العوام‏.‏